نظريّة اللاشعور
استخلاصات الفصل الأول من كتاب الانا و الهو
يرجِع تاريخ اكتشاف فرويد للاشعور و أهميته في حياة
الإنسان إلى وقت اشتغالهِ بدراسة الهستيريا , بالاشتراك مع جوزيف بروير
(1841-1925) , أحد أطباء فيينا المشهورين , و اتَّضحَ لهما أثناء الدراسة
أن الأعراض الهستيريّة تنشأ عن ذكريات مكبوتة في اللاشعور و هذه الأعراض
تزول إذا استطاعَ المريض تذكّر هذه الذكريات (الأحداث) أثناء العلاج .
و
لم يكن من السهل أن يقتنع الفلاسِفة بفكرة (العقل اللاشعوري) , كما يقول
فرويد ,التي كانت برأيهم تُناقِض المنطِق . فلا بُدَّ أن يكون العقل
شعوريّاً , و في هذا الكتاب نجد تعديلاً بآراء فرويد , فيما يتعلَّق
باللاشعور و علاقته بأجزاء الجهاز النفسي , عن مؤلفاتِهِ الأولى . و من
المعروف أن فرويد كثير التعديل و التغيير لآرائه و نظريّاتهِ على ضوء ما
كانت تكشُفهُ لهُ ملاحظاته و أبحاثه من معلومات جديدة .
نظريّة الجهاز النفسيّ :
برأي فرويد , هناك ثلاث أقسام للجهاز النفسي , و هي :
الشعور و ما قبل الشعور و اللاشعور .
الشعور:
هو ذلك القسم من العمليات النفسيّة التي نشعر بها دون و نُدركها , و من
المشاهد أن العمليّات النفسيّة الشعوريّة لا تكون سلسلة متَّصلة , بل يوجد
فيها دائماً الكثير من الثغرات و الفجوات , و أن تفسير هذه الثغرات يعود
بالرجوع إلى العمليّات النفسيّة التي تجري في القسمين الآخرين من العقل و
هُما : (ما قبل الشعور) و (اللاشعور) .
إنّ الشعور حالة وقتيّة
-(مؤقتة)- و ليست دائمة , قد تظهر فيها الفكرة لفترة قصيرة ثم تختفي , و
بإمكانها الظهور مرة أخرى إذا توافرت شروط معيّنة . عندما تبتعد الفكرة عن
الشعور لحينٍ ما , فهي تكون موجودة في قسم معيَّن من الجهاز النفسيّ (ما
قبل الشعور) , و يقع في مكان متوسِّط بين الشعور و اللاشعور .
يحوي
اللاشعور الدوافع الغريزيّة البدائيّة الجنسيّة و العدوانيّة ’ و التي
غالباً ما تُكبَتْ في مجتماتنا المُتحضِّرة , تحت تأثير المعايير
الخُلقيَّة و الدينيّة و الاجتماعيَّة التي ينشأ فيها الفرد . و تنزع
الدوافع و الرغبات المكبوتة في اللاشعور إلى الإشباع و الظهور في الشعور , و
كثيراً ما تلجأ , في سبيل ذلك إلى طرق شاذّة و مُلتوية كما يُشاهَد مثلاً
في الأمراض العصبيَّة .
و ذهب فوريد في كتاباتِهِ الأولى إلى أنَّ كبتَ
هذه الدوافع الغريزيّة الموجودة في اللاشعور , يتم على يد الرقيب (القوة
النفسيّة) , و مهمتها منع ظهور الدوافع الغريزيّة اللاشعوريّة في الشعور , و
أنَّ المريض لا يشعُر بها و إذا وُوجِهَ بها , أنكرها و إذا شعرَ بها فلا
يستطيع أن يعرِف ما هي و ما هو مصدرها .
(الهُوَ) هو القسم الذي يحوي ما
هو موروث و موجود منذ الولادة و ثابت في تركيب البدن , و يحوي الغرائز و
العمليات النفسيّة المكبوتة التي فصلتها المقاومة عن الأنا , فالهو يحتوي
على جزء فطري و جزء مكتسب .
يُطيع الهو مبدأ اللذة و لا يُراعي المنطِق
أو الأخلاق أو الواقع , و اللاشعور هو الكيفيّة الوحيدة التي تسود في الهوَ
. و تحت تأثير العالم الخارجي عن طريق جهاز الإدراك الحسي و الشعور ,
تغيَّر الجزء الخارجي من الهو و نما و أكتسبَ خصائص معيَّنة أطلق عليها اسم
(الأنا) و هي تُشرِف على الحركة الإداريّة و تقوم بمهمة حفظ الذات و تقبِض
على زمام الرغبات الغريزيّة التي تنبعث من الهو , فيقوم بإشباع ما يشاء و
يكبت ما يرى ضرورة كبته مُراعياً (مبدأ الواقِع) . يُمثّل الأنا الحكمة و
سلامة العقل على خلاف الهوَ الذي يحوي الانفعالات , و تَقع العمليات
النفسية الشعورية على سطح الأنا .
الأنا الأعلى أو الأنا المثالي (ما
يُعرَف بالضمير) : و هو الأثر الذي يبقى في النفس من فترة الطفولة الطويلة
التي يعيش فيها الطفل معتمداً على والديه و خاضِع لأوامرهم . تتقمَّص الأنا
هؤلاء الأشخاص من مدرسين و أهل و تتحوَّل سلطة هؤلاء إلى سلطة داخليَّة في
نفس الطفل تُراقِبه و تصدر إليه الأوامر .
و الأنا الأعلى , تُمثل ما
هو سامِ في الطبيعة الإنسانيّة (فهو الذي يُمثل علاقتنا بوالدينا و قد
عرفنا هذين الكائنين الساميين حين كنّا أطفال صغار و قد أعجبنا بهما و
خشيناهما ثم تمثلناهما في أنفُسِنَا ).
بهذا , تُصبح مهمة الأنا شاقة و
دقيقة , فيجب عليه مُراعاة السُلطات الثلاث و هي : العالم الخارجي و الهو و
الأنا الأعلى , و يُحاول الأنا دائماً أن يوَفق بينها و إذا فشِل , تنشأ
الاضطرابات العصبيّة و الذهنيّة .
نظريّة الغرائز :
رأى فرويد أن
جميع الظواهر النفسيّة الشعوريّة و اللاشعوريّة , سواء كانت سويّة أو
مرضيّة , تصدُر عن قوى أساسيّة , تنبعِث عن التركيب الفسيولوجي و الكيميائي
للكائن الحي , تُسمَّى غرائِز و هي الطاقة التي تصدُر عنها جميع ظواهر
الحياة .
في بادئ الأمر , فسَّر فرويد أن جميع الظواهر النفسيّة بافتراض مجموعتين أساسيّتين من الغرائز :
- مجموعة أولى : هي غرائز جنسيّة تصدر عن طاقة خاصّة تُسمّى الليبدو (Libido) , تهدف إلى الإشباع و اللذة .
-
المجموعة الثانية : هي (غرائز الأنا) , مهمتها حفظ الذات و ذلك بمراعاة
العالم الخارجي و مُقتضيات الواقع , و كبت الدوافع الجنسيّة التي تتعارض مع
مقتضيات الواقع من جهة, أو مع وظائف غرائز الأنا من جهة أخرى .
تعمل
الغرائز وفق مبدأ اللذة , فليس الواقع الغريزي إلا ناتجاً عن حالة من
التوتر ينتج عنهُ إحساس بالألم , و يهدف الدافع الغريزي إلى خفض هذا التوتر
أو إزالتهِ , و عندما ينخفض التوتر أو يزول , يحدُث الشعور باللذة .
اتخذ
فرويد مبدأ اللذة أساس يفسر به الظواهر النفسيّة المختلفة كما الأعراض
العصبيّة , و هنا واجهَ فرويد صُعوبات في تفسير بعض الظواهر النفسيّة , فلم
يكن من السهل الملائمة بين نظريته السابِقة في الغرائز و بين النرجسيّة و
هي ظاهرة تُعبّر عن حب الإنسان لنفسه و عشقهُ لذاته , و هذه الظاهرة تدل
على أن الغريزة الجنسيّة لا تتعلق فقط بالأهداف الجنسيّة الخارجيّة , و
إنما تتعلق بالذات أيضاً و تتخذها هدفاً لها .
و قد دفع ذلك فرويد إلى
القول أن ليبدو الطفل (طاقته الجنسيّة) , معلّقة بذاته و جميع اللذات التي
يشعر بها تصدُر من بدنه الخاص , و الأشياء الخارجيّة التي تسبب له شيء من
اللذة هي جزء من بدنُه .
ثمَّ تبدأ الموضوعات الخارجيّة تتميّز في نظر الطفل شيئاً فشيئاً , و قد يستمر (حب الذات) جنباً إلى جنب مع حب الموضوع .
و
قد شاهد أيضاً أن المرضى يُظهِرون ميل شديد إلى تكرار خبراتهم المؤلمة
السابِقة , و استنتجَ فرويد وجود دافع غريزي سمّاه (إجبار التكرار) , و
اعتبَرَهُ دافعاً غريزياً أكثر بدائيةً و فطريّة من مبدأ اللذة و يُناقِضهُ
, فالمريض لا يحصل على أي لذة من تكرار الخبرات المؤلمة القديمة .
و
أثناء الحرب العالميّة الأولى , اكتشفَ ظاهِرة جديدة أيّدت رأيه في مبدأ
(إجبار التكرار) تُسمّى (أعصاب الصدمة) , فقد لوحِظَ أن الجنود الذين
تعرَّضوا لصدمات أثناء القتال , يُكررون الخبرات المؤلمة في أحلامِهم . و
كانت الأحلام بالنسبة لفرويد , وسائل لإشباع الدوافع المكبوتة , و كل إشباع
بالطبع يؤدي إلى لذة!
اضطرّ فرويد أمام هذه الحقائق التي ناقشها في
كتابه (ما فوق مبدأ اللذة) , أن يقول بوجود ميل غريزي و هو غريزة الموت ,
يدفع الكائنات إلى الرجوع إلى الحالة الغير عضويّة السابقة للحياة , و
تهدُف غريزة الموت إلى الهدم و إنهاء الحياة . وإذا اتَّجهت هذه الغريزة
إلى الخارج , ظهرت في صورة رغبة في العدوان و التدمير . تهدف غريزة الموت
إلى تفتيت الذرات و تفكيك الارتباطات , أي أنها تهدف إلى هدم الأشياء و
إنهاء الحياة .
مقابل غريزة الموت هناك غريزة الحب و الحياة إيروس(Eros)
, و هي تهدف دائماً إلى استمراريّة الحياة . و تصبح الحياة صراعاً و حلاً
بين هذين الاتِّجاهين .
من الأمثلة النموذجيَّة على إتحاد هاتين
المجموعتين , الساديّة (التلذذ في إيلام الغير) و هي عِبارة عن إتحاد
الغرائز الجنسيّة مع غرائز الهدم الموجهة نحو العالم الخارجي , و تنشأ
الماسوكيّة (التلذذ في إيلام الذات) عن اتحاد الغرائز الجنسيّة مع غرائز
الهدم الموجهة ضد الذات .
زيادة العدوان الجنسيّ من شأنِِهِ أن يجعل
المُحِب قاتِلاً , و بينما يؤدي النقصان الكبير في العامل العدواني إلى
الخجل أو فقدان القدرة الجنسيّة . قد تنفصل هاتان المجموعتان من الغرائز ,
فنُشاهد غريزة الموت تظهر بوضوح في نوبة الصرع في الكثير من الأمراض
العصبية الشديدة كالأمراض العصبية القهريّة .
(ما فوق مبدأ اللذة)
الشُّعور و اللاشعور :
لفظ
(شعوري) , من جهة أولى , هو لفظ وصفي بحت يعتمد على إدراك حسّي ذي طابع
مباشر , و تُبيِّن الخبرة من جهة ثانية أن العنصر النفسي كالفكرة مثلاً لا
يكون شعوريّاً دائماً . الفكرة التي تكون شعوريّة الآن لا تظل شعوريّة , و
نستطيع أن نقول أن الفكرة كانت كامنة و نعني بذلك أنها (تستطيع أن تُصبح
شعوريّة) في أي وقت .
السبب في أن مثل هذه الأفكار لا يُمكنها أن تصبح
شعوريّة لأن هناك قوى معيّنة تُقاومها , و لولا ذلك لكان في إمكانها أن
تصبح شعوريّة . و هناك حقيقة تجعل هذه النظريّة غير قابلة للرفض و هي أننا
وجدنا في التحليل النفسيّ وسيلة يُمكن بها إزالة القوّة المُقاومة و جعل
الأفكار المُقَاومة شعريّة , و نُسمي الحالة التي تكون فيها الأفكار قبل أن
تُصبح شعوريّة بـ (الكبت).
إننا نستمد مفهومنا في اللاشعور من نظريّة
الكبت و نعتبر المكبوت كنموذج للاشعور , و مع ذلك يوجد نوعان من اللاشعور .
اللاشعور الذي يكون كامناً و لكنه يستطيع أن يُصبح شعوريّاً , و اللاشعور
المكبوت الذي لا يستطيع بذاتِهِ و بدون كثير من العناء أن يُصبح شعوريّاً .
فما هو (كامن و لا شعوري) بالمعنى الوصفيّ , و ليس بالمعنى الدينامي ,
فهُنا نُسمّيهِ (قبل الشعور) .
• يوجد في كل فرد منظمة دقيقة للعمليات
العقليّة و قد سمَّيناها (الأنا) , و يشمُل هذا الأنا الشعور و يُشرِف على
وسائل الحركة , أي تفريغ التهيُّجات في العالم الخارجي , و هو المنظمة
العقليّة التي تُشرف على جميع العمليات العقلية , و هي التي تنام في الليل و
مع ذلك تستمر بمراقبة الأحلام . يصدُر عنها أيضاً الكبت الذي تمنع بِهِ
بعض نزعات العقل , لا من الظهور في الشعور و حسب , بل من الظهور في سائر
الصور و النشاطات الأخرى .
تظهر هذه النزعات المكبوتة أثناء التحليل
متعارضة مع الأنا , و المريض يجد الكثير من المشقّة حينما نُجابِهُهُ ببعض
المهام أثناء التحليل . كما نرى تداعي أفكاره يتوقَّف كلما اقترب من
الأشياء المكبوتة و لا يكون المريض متنبّه لتلك المقاومة . ثمَّ وجدنا في
الأنا ذاته شيئاً لاشعوريّاً أيضاً و هو يتصرَّف كالشيء المكبوت , أي كشيء
يُحدِث آثاراً بالِغة بدون أن يكون هو نفسه ظاهراً في الشُعور , و هو يحتاج
إلى مجهود خاص قبل أن يستطيع الظهور في الشعور .
إننا نُدرِك أن
اللاشعور لا يتطابق مع المكبوت و لا يزال صحيحاً أن كل ما هو مكبوت ,
لاشعوريّ , و لكن ليس كل ما هو لاشُعوريّ , مكبوت . فإن جزءً من الأنا
لاشعوري و ليس هذا اللاشعور المُتعلِّق بالأنا كامناً مثل ما قبل الشعور ,
لأنه لو كان كذلك لما استطاع أن ينشط بدون أن يُصبِح شعوريّاً و لتمَّت
عمليّة جعلِهِ شعوريّاً بدون أن تُلاقي مثل هذه المشقّة العظيمة . عندما
نجد أنفسنا مضطرين إلى افتراض لاشعور ثالث لا يكون مكبوت , فمن الواجب أن
نعترف أن خاصيِّة اللاشعور أخذت تفقد أهميّتها لأنها بدأت تُصبح كيفيّة ,
تستطيع أن تتضمَّن معاني كثيرة و مع ذلك لا يجوز نكران أهميتها , لأن
كيفيّة الشعور أو اللاشعور هي شُعاع الضوء الوحيد الذي ينفذ إلى ظلام
سيكولوجيّة الأعماق .